فشل نتنياهو- من غزة إلى إيران، نحو أزمة أعمق وصدع إقليمي

المؤلف: منير شفيق08.28.2025
فشل نتنياهو- من غزة إلى إيران، نحو أزمة أعمق وصدع إقليمي

واجه بنيامين نتنياهو معضلة كبرى، ازدادت تعقيدًا على مدار عشرين شهرًا، في بقعة غزة الملتهبة. جاء ذلك كرد فعل على عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث شنّ حربين ضروسين في وقت واحد: الأولى، حرب برية قادها الجيش الإسرائيلي الغاشم، بهدف القضاء المزعوم على المقاومة الفلسطينية الباسلة وفرض سيطرة عسكرية خانقة على القطاع.

أما الحرب الثانية، فكانت حربًا جوية شعواء شنّها الطيران الإسرائيلي المجرم، من خلال ارتكاب مجازر جماعية بشعة (إبادة بشرية) وتدمير شبه كامل للبنية التحتية، مع التركيز بشكل خاص على هدم المستشفيات وإخراجها قسرًا من الخدمة، وصولًا إلى فرض مجاعة شاملة على السكان، وقنص المئات الذين يندفعون بيأس للحصول على المساعدات الإنسانية الضرورية، وهم يتضورون جوعًا وعطشًا.

لقد أسفرت الحرب البرية عن فشل ذريع وعسكري مدوٍ. فقد أثبتت شبكة الأنفاق المعقدة والممتدة تحت أرض القطاع، فعاليتها وقدرتها الفائقة في توفير الحماية للمقاومين. كما أظهرت قيادة المقاومة الفلسطينية كفاءة عالية في إعداد القادة والمقاتلين المتمرسين والمتحصنين في الأنفاق، والذين أثبتوا جدارتهم في القتال، مع توفير كل ما يحتاجون إليه لخوض حرب قد تطول لعامين أو أكثر.

هذا الأمر سمح للمقاومة بتعطيل التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق بالطائرات والدبابات المتطورة. وأدى في نهاية المطاف إلى فشل عسكري مؤكد في تحقيق الهدف الرئيسي المعلن، وهو القضاء على المقاومة الفلسطينية. بل وصل الأمر إلى تحقيق انتصار عسكري واضح للمقاومة، كما تجسد في الاتفاق الذي تم التوصل إليه في 15 يناير/ كانون الثاني 2025، خاصة في إجراءات تبادل الأسرى. وقد ازدانت أرض القطاع بباقات من البنادق شامخة.

أما حرب الإبادة الوحشية، وبالرغم من الألم والمعاناة والضحايا الأبرياء والشهداء والجرحى والدمار الهائل والعذابات التي لا تُحصى التي سببتها، فقد لطّخت سمعة الكيان الإسرائيلي، ووصمته بصفة منتهك القانون الدولي السافر، والقيم الأخلاقية والإنسانية النبيلة، وبقاتل الأطفال بوحشية، وحارق المستشفيات دون رحمة. الأمر الذي دمر صورته ومكانته في وعي الرأي العام العالمي المستنير. وهذا سيترك أثره العميق ولاحقًا، في تحرير فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وفي رحيل المستوطنين الغاصبين الذين أقاموا كيانًا زائفًا لا يمتلك أي حق أو شرعية.

هنا بدأت أزمة نتنياهو الحقيقية، ووقوعه في المأزق الذي تسبب له في عزلة دولية متزايدة، ولا سيما من قِبَل دول الغرب التي أعربت عن عدم موافقتها على عودته للحرب الثانية، وعلى استمرار الإبادة الجماعية، التي اقتربت من عامين كاملين. بل حتى راح نتنياهو يواجه أزمة حادة في علاقته بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

وذلك بسبب الانقسام الداخلي الحاد الذي تولّد ضده في الكيان الإسرائيلي نفسه، وكذلك على المستوى العالمي والدولي، وفي الرأي العام العالمي، وحتى في صفوف الحركات الصهيونية التي انقسمت بدورها ضده. وخاصة الرسالة التي وجهها الصحفي الصهيوني الشهير توماس فريدمان، والتي طالب فيها ترامب بالتخلي عن نتنياهو، الذي راح يقوض الكيان الصهيوني ويدمر سمعته.

عندما يُوضع معارضو نتنياهو داخل الكيان وخارجه في كفة ميزان واحدة، لا يبقى مجالٌ للشك في وقوعه، في براثن أزمة حقيقية تهدد بسقوطه المدوي، أو تراجعه المذل والمهين.

وفي محاولة يائسة لإيجاد مخرج من هذا المأزق الداخلي الخانق الذي حاصر حكومته، ودفع خصومه السياسيين في الداخل إلى الالتفاف حوله، شنّ نتنياهو هجومًا على إيران في 13 يونيو/ حزيران 2025، وهو مشهد تكرّر خارجيًا مع الدول الغربية التي سارعت إلى تأييده تحت شعار: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران".

وبهذه الخطوة يكون نتنياهو قد انتقل من قاع العزلة والانتقادات اللاذعة، وحتى العداء الصريح له، إلى قيادة حرب ضروس ضد إيران، سعيًا لتحقيق الوحدة الداخلية المرجوة والتضامن العالمي الذي يعزّز قيادته للكيان الصهيوني. وذلك بهدف التخلص من المنشآت النووية والصواريخ الباليستية الإيرانية، بل إنهاء كل ما بنته إيران وحققته طوال المرحلة الممتدة منذ انتصار الثورة الإسلامية في عام 1979 حتى يومنا هذا.

ومن ثَم الانتقال إلى تركيع المنطقة العربية والإسلامية بأكملها، من خلال امتلاك قوة الردع العسكرية المهيمنة، وبما في ذلك تصفية القضية الفلسطينية العادلة، وإعادة رسم خرائط دولها، والتحكم بأنظمتها وسياساتها بتسلط واستبداد.

وهذا ما أخذ يلمّح إليه كل من ترامب ونتنياهو طوال نهار الجمعة الموافق 13 يونيو/ حزيران 2025، وذلك بعد شنّ الغارات الجوية المباغتة التي ضربت فجر اليوم نفسه، واغتالت عددًا كبيرًا من العلماء وقادة الحرس الثوري الإيراني. وقد أُعلن رسميًا عن تدمير ما خُطّط لتدميره من منشآت نووية وصناعية باليستية. وبدت المعادلة الجديدة مائلة بشكل كبير لصالح الكيان الصهيوني، بما في ذلك "السيطرة الكاملة على سماء طهران".

إن من يتذكر بدقة المناخ السياسي الذي ساد طوال نهار الجمعة 13 يونيو/ حزيران، سوف يستحضر على الفور موقف الشامتين بإيران، ويسترجع خوف القوى المتعاطفة معها، كما يتذكر دهشة المراقبين وهم يشهدون معادلة جديدة بدأ يرسمها فجر الجمعة نتيجة هذه الحرب المفاجئة.

لكن هذا المناخ المتفائل سرعان ما تبدّد وتلاشى في ليلة الجمعة/ السبت الموافق 13/14 يونيو/ حزيران، مع انطلاق ما يقرب من خمسمئة صاروخ من الأراضي الإيرانية، والتي ضربت بقوة مدينتي تل أبيب وحيفا المحتلتين. وقد استعادت إيران بهذه الضربات زمام المبادرة المُحصّنة، بقرار حاسم وشجاع من الإمام خامنئي بخوض حرب الرد على هذا العدوان السافر، وبتصميم لا يعرف التردد، وبشجاعة فائقة.

ثم جاءت ليلة السبت/ الأحد الموافق 14/15 يونيو/ حزيران لتُصعّد إيران من وتيرة الرد الصاروخي الباليستي، بما في ذلك صواريخ من نوع "فرط صوتي" المتطورة القادرة على اختراق القبة الحديدية الإسرائيلية والوصول إلى أهدافها بدقة متناهية، محققة دمارًا هائلاً لم يعهده الكيان الصهيوني من قبل، وقد تجاوز النوعان، كما تأكّد في نهار وليلة الخامس عشر من يونيو، مستويات جديدة تمامًا من القدرة والتأثير والاختراق.

وبهذا كانت نتيجة الردود الإيرانية الحاسمة، عودة نتنياهو إلى مأزق أشدّ وطأة وأكثر تعقيدًا من سابقه. وكيف لا يكون كذلك، إذا ما تطور ميزان القوى في حرب الثالث عشر من يونيو/ حزيران في غير مصلحة نتنياهو على الإطلاق، بل تطوّر بشكل ملحوظ لصالح إيران. مما سيترك أثره البالغ في مستقبل الوضع برمته في المنطقة، وفي المقدمة المقاومة الفلسطينية الباسلة، والشعب الفلسطيني الصامد، والقضية الفلسطينية العادلة. وبهذا ينقلب السحر على الساحر مرة أخرى بشكل مدوٍ.

لقد أصبح الاتجاه العام لتطورات الحرب يسير حتمًا نحو مزيد من القوة لإيران، وإلى المزيد من الضعف للكيان الصهيوني المتغطرس، وإلى تعميق مأزق نتنياهو الفاشل في كل من غزة وإيران على حد سواء.

على أن هذه المعادلة الجديدة، نقلت "الكرة" إلى ملعب ترامب، ودول أوروبا من ناحية الكيفية التي سيتعاملون بها مع هذا الوضع المستجد: هل سيتجهون نحو هدنة تكرّس انتصارًا ساحقًا لإيران وتعزز دورها المحوري في المنطقة، كما تكرّس هزيمة الكيان الصهيوني ومأزق نتنياهو؟ أم سيُصرّون على الاستمرار في الحرب، مما يمنع الوصول إلى هذه النتيجة الكارثية بالنسبة للكيان الصهيوني، حرصًا على بقائه ومستقبله؟

هذا، وسيترتب على أي من الخيارين المطروحين، نشوء معادلة إقليمية جديدة بالكامل، تختلف جذريًا عن تلك التي عرفها العالم، فيما بين طوفان الأقصى وحرب الثالث من يونيو/ حزيران على إيران.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة